فلسطين- قرن من الضياع، هل ينتصر الحل العادل؟

في هذا الشهر، وتحديدًا في شهر فبراير/شباط، أبصر النور كتابٌ موسوعي للكاتب الفرنسي القدير، جون بيير فيليو، يستعرض بعمقٍ وتفصيل مسيرة القضية الفلسطينية على امتداد أكثر من قرن من الزمن، ويحمل عنوانًا بارزًا: "كيف ضاعت فلسطين، ولم تنتصر إسرائيل؟ تاريخ نزاع (القرن التاسع عشر، القرن الواحد والعشرين)".
ينطلق هذا المفكر الفرنسي المتبحر في شؤون الشرق الأوسط من نقطة تحول جوهرية، ألا وهي أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مؤكدًا أنها لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت نتيجة حتمية لليأس والإحباط المتراكم لدى الفلسطينيين، والذي تغذى من الممارسات الإسرائيلية المتمثلة في الحصار الخانق على قطاع غزة، والتضييق المستمر على الضفة الغربية، والقيود المتزايدة على فلسطينيي الداخل، أو ما يعرفون بعرب إسرائيل، فضلًا عن سلسلة الإجراءات القانونية (مثل قانون القومية) والإدارية والأمنية المشددة، والمعاهدات المثيرة للجدل (مثل اتفاقات أبراهام).
تتجلى أهمية هذا الطرح في كونه صادرًا عن باحث فرنسي غربي مرموق، ذي خلفية أكاديمية راسخة، وسجل حافل بالإنجازات، يتمتع بدقة متناهية في المعرفة، وبصيرة نافذة في تحليل الشأن العربي، وهما صفتان تنبعان من إلمامه الوثيق بتفاصيل العالم العربي، وتفاعله الوجداني العميق مع القضية الفلسطينية، بحكم تجربته المعاشة في قطاع غزة.
إن شهرة فيليو لا تقتصر على الدوائر الفرنسية، التي غالبًا ما يكون صوتها خافتًا في قضايا الشرق الأوسط بشكل عام، بل تتجاوزها لتصل إلى أروقة الجامعات الأميركية المرموقة، مثل جامعة هارفارد، وله تأثير محتمل على ما يُعرف بـ "المستعربين" (أي الباحثين المعنيين بشؤون العالم العربي في مراكز صنع القرار)، إذ يُعد فيليو من الشخصيات البارزة والمؤثرة في أوساط المهتمين بقضايا العالم العربي.
يخلص فيليو في تحليله إلى أن إسرائيل، على مدى قرن كامل، قد حققت انتصارات عسكرية بفضل الدعم الغربي المتواصل، بدءًا من بريطانيا، ووصولًا إلى الولايات المتحدة، إلا أن هذا الانتصار يظل قاصرًا عن أن يكون انتصارًا استراتيجيًا، حتى في ظل الأحداث المؤلمة التي نشهدها اليوم، والتي تتسم بصور "القيامة" أو الدمار الشامل الذي تمارسه إسرائيل؛ لأنها لم تتمكن من طمس القضية الفلسطينية، ولا من إجبار الفلسطينيين على الاستسلام والخنوع.
ويرى فيليو أن القوة الغاشمة ليست هي الحل الأمثل، بل من الضروري التحرر من الروايات المختزلة والتبسيطية، أو الهوياتية المتضاربة، التي تقوم على منطق اللعبة الصفرية، والتي تفترض أن انتصار طرف ما يستلزم بالضرورة هزيمة الطرف الآخر.
فالطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، متشابكان ومتداخلان إلى حد بعيد، ويحتاج أحدهما إلى الآخر للخروج من الخطاب الأحادي الذي يلغي الآخر، والذي تسبب في تلاشي حلم الدولة الجامعة من قوميتين، أو ما يُعرف في الأدبيات الفلسطينية بالدولة الديمقراطية، وهو المفهوم الذي لم يؤمن به اليمين الإسرائيلي المتطرف قط.
وفي الوقت نفسه، بات من الواضح والجلي أن صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه، في ظل تجاهل حقوقه المشروعة، يمثل قيدًا حقيقيًا على مستقبل إسرائيل.
لذا، يتوجب الخروج من هذا المأزق، فالواقع أن العالم بأكمله بحاجة ماسة إلى حل القضية الفلسطينية؛ لأنها لطخت العلاقات الدولية خلال فترة الحرب الباردة، وكرست فكرة صِدام الحضارات، وأضعفت دور الأمم المتحدة، التي غالبًا ما كانت قراراتها المتعلقة بالنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي تُضرب عُرض الحائط، بسبب استخدام الفيتو الأميركي، ويمكن لبقاء هذه القضية دون حل، أن يكون بمثابة بروفة لوضع أسوأ على مستوى العلاقات الدولية في المستقبل.
وهنا يستحضر فيليو شخصية سعيد "المتشائل" لإميل حبيبي، كنموذج للخروج من النفق المظلم الذي يحيط بملف النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، حيث يتنازعه اليأس من وضع قابل للتدهور، ثم ينقذه الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل، يكون منطلقًا لمقاربة جريئة وعادلة.
فالمسألة أعمق وأشمل من مجرد وضع حد لاحتلال شعب مُهجّر ومغبون في حقوقه، بل هي تتعلق بوضع أسس جديدة لعالم يسوده العدل والإنصاف؛ لأن العالم الذي نعيشه، حتى في ظل الحرب الباردة، لم يستقر بسبب عدم حل القضية الفلسطينية، وهو الآن يتجه نحو حرب حضارية، ما لم يتم استخلاص العِبر والدروس من الوضع الراهن.
لقد أسهم عدم حل القضية الفلسطينية في تسميم العلاقات الدولية، وفي سباق التسلح المحموم، وفي التوتر المتصاعد بين الدول والمجتمعات، وفي تحييد دور الأمم المتحدة، وفي النزوع المتزايد نحو بشاعة العلاقات المجتمعية، حسب تعبير الأكاديمي الفرنسي المرموق. لذا، ينبغي حل القضية الفلسطينية، من أجل خير العالم أجمع.
بطبيعة الحال، فإن خيار "الحل" من دون الفلسطينيين غير وارد على الإطلاق، ولذلك لا يمكن الانطلاق نحو عصر جديد بقلب مطمئن من دون إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. إن اتفاقات أبراهام، التي تتضمن رؤية الولايات المتحدة لـ "حل" النزاع، تبدو "كادوك" (متجاوزة بالفرنسية) – على حد تعبير ياسر عرفات عن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية – لأنها تحمل خطيئة أصلية، وهي تجاهل الفلسطينيين أنفسهم، وتجاهل نبض الشارع العربي.
ويرتبط بتلك النقطة تساؤل هام: هل يمكن ترك ملف النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي تحت رحمة الهيمنة الأميركية المطلقة، التي أزاحت روسيا عن هذا الملف، وتتحسس من أي دور محتمل للصين؟
يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة، لا سيما في الظرفية الراهنة التي دخلت فيها الحرب على غزة مرحلة الاستئناس، وهي المرحلة الأخطر على الإطلاق، إذ يذكرنا بأن الرأي العام العالمي يجب ألا يهدأ أو يستكين، بل يجب أن يستمر في تكثيف الضغوط من أجل وقف الحرب، وخاصة في الولايات المتحدة.
وعلى المستوى الرسمي، يجب حث الأمم المتحدة على تبني خيار المؤتمر الدولي لحل النزاع، وبعبارة أخرى، يجب إخراج القضية الفلسطينية من تحت العباءة الأميركية.
تكمن الفائدة في الفترات الانتقالية، في أنها تتيح لنا فرصة صياغة قواعد جديدة، على خلاف الأوضاع المستقرة التي تجبرنا على الخضوع لقواعد جاهزة.
ويمكن أن نستخلص نتيجة أخيرة من كتاب فيليو، وهي العودة إلى الذاكرة الجمعية. فمن اللافت للنظر على امتداد العالم العربي، ومنذ بداية "مسلسل السلام"، هو تلاشي السردية الفلسطينية من وجدان المجتمعات المدنية، بل إنها اقترنت أحيانًا بجهل مطبق وتجاهل مقصود. لذا، يتوجب الآن إعادة إحياء تلك السردية، في الإعلام، والتعليم، وباللغة العربية.
